المادة    
قال أبو عمر: "روى حرملة بن يحيى قال: سمعت عبد الله بن وهب يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: [[من وصف شيئاً من ذات الله؛ مثل قوله: ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ))[المائدة:64] -وأشار بيده إلى عنقه- ومثل قوله: ((وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))[الشورى:11] -فأشار إلى عينيه أو أذنه أو شيئاً من بدنه- قطع ذلك منه؛ لأنه شبه الله بنفسه]] وهذا دليل على أن السلف لا يشبهون ولا يمثلون، والمقصود من كلام الإمام مالك رحمه الله من قال ذلك على سبيل التشبيه؛ بدليل قوله: (قطع ذلك منه لأنه شبه الله بنفسه)؛ فقد ورد في قوله تعالى: ((وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا))[النساء:134] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أشار إلى عينيه وأذنه، وورد حديث القبض بيده و هو على المنبر، وحديث الأصابع، وحديث الحبر اليهودي؛ فما الفرق بين فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن يتحدث عنهم الإمام مالك رحمه الله؟ الجواب: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر ذلك، كان يريد حقيقة الصفة، ويريد إثبات الصفة؛ قال تعالى: ((وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا))[النساء:134] فهو لا يقصد أن له سمعاً كسمعنا وبصراً كبصرنا؛ فلو قال شخص: إن لله سمعاً كسمعي، وبصراً كبصري -تعالى الله عن ذلك- فهذا الشخص يقطع منه ذلك العضو.
  1. موقف الإمام مالك من مشبهة الرافضة

    لم يقل مالك رحمه الله هذا القول عفواً واعتباطاً؛ لكنه كان معاصراً للرافضة والذين كان دينهم التشبيه؛ كـهشام بن الحكم الرافضي وداود الجواربي ؛ لأنهم أخذوا أصل دينهم عن اليهود، واليهود حرفوا التوراة؛ وأدخلوا فيها التمثيل والتشبيه وأن الله -تعالى عما يقولون - صارع يعقوب إلى الفجر؛ فهذا مما يستدل به هشام بن الحكم وأمثاله؛ وفي مواضع كثيرة في التوارة يثبتون لله تعالى من الصفات ما هو من خصائص المخلوق.
    في التوراة: أن الناس لما ظهر شرهم في الأرض، ندم الرب أنه خلقهم تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! وفيها: أن الله لما غضب على بني إسرائيل، قام موسى وقال: يا رب! ارجع عن غضبك وارجع عن الانتقام، وعاتبه حتى رجع، والتوراة مليئة بمثل هذا، وهؤلاء الرافضة أفراخ اليهود؛ لأن الذي أنشأ مذهب الرافضة هو عبد الله بن سبأ اليهودي؛ فأخذوا ذلك عنه، ولهذا صدقت الرافضة أن الله تعالى حل في علي بن أبي طالب ؛ مع أنهم يرونه بشراً أمامهم؛ فلا يصدق أحد أن الله يحل في شيء إلا من كان دينه السابق يقول ذلك؛ فكما ورد في التوراة أنه جاء إلى إبراهيم وصارع يعقوب؛ فمن الممكن أن يحل في علي.
    فالإمام مالك رحمه الله قال ذلك؛ لأنه كان في عصره هشام وداود وأتباعهم.
  2. أهل السنة لا يكيفون صفات الله

    ثم قال ابن عبد البر رحمه الله: "الذي عليه أهل السنة وأئمة الفقه والأثر في هذه المسألة وما أشبهها الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها والتصديق بذلك، وترك التحديد والكيفية في شيء منه".
    ثم أخذ ينقل الأقوال عن سفيان بن عيينة أنه سئل عن حديث عبد الله : {إن الله عز وجل يجعل السماء على إصبع}، وحديث: {إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن}، {إن الله يعجب أو يضحك ممن يذكره في الأسواق}، {إن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة}، ونحو هذه الأحاديث -وسفيان بن عيينة هو شيخ الإمام أحمد من أجل علماء السلف رضي الله عنهما- فقال: [[هذه الأحاديث نرويها ونقر بها كما جاءت بلا كيف]].
    وبسند آخر عن الوليد بن مسلم قال: "سألت الأوزاعي -إمام أهل الشام - وسفيان الثوري -إمام أهل العراق - ومالك بن أنس -إمام أهل المدينة - والليث بن سعد -إمام أهل مصر - عن هذه الأحاديث التي جاءت في الصفات؛ فقالوا: [[أمروها كما جاءت بلا كيف]] أي: آمنوا بها، واعتقدوا معانيها كما وردت على ظاهرها بلا كيف.
    ثم ينقل أبو عمر عن يحيى بن معين "يقول: شهدت زكريا بن عدي سأل وكيع بن الجراح، فقال: يا أبا سفيان! هذه الأحاديث يعني: مثل: [[الكرسي موضع القدمين]] ونحو هذا؟ فقال: أدركت إسماعيل بن أبي خالد وسفيان ومسعراً يحدثون بهذه الأحاديث، ولا يفسرون شيئاً" يعني لا يخوضون في شيء منها بالتحريف والتأويل، وإنما يحملونها على ظاهرها.
    ثم ساق ابن عبد البر رحمه الله الإسناد إلى عباس بن محمد الدوري، قال: "سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام وذكر له عن رجل من أهل السنة أنه كان يقول: هذه الأحاديث التي تروى في الرؤية و[[الكرسي موضع القدمين]]، و{ضحك ربنا من قنوط عباده}، و{إن جهنم لتمتلئ} وأشباه هذه الأحاديث، وقالوا: إن فلاناً يقول: يقع في قلوبنا أن هذه الأحاديث حق، فقال: ضعفتم عندي أمره! هذه الأحاديث حق لا شك فيها، رواها الثقات بعضهم عن بعض؛ إلا أنا إذا سئلنا عن تفسير هذه الأحاديث لم نفسرها، ولم نذكر أحداً يفسرها.
    وقد كان مالك ينكر على من حدث بمثل هذه الأحاديث" .. إلى آخر ما ذكره رحمه الله من نقول يضيق المقام عن ذكرها، ولكن حسبنا ما بيناه من كلام هذا الإمام الجليل وأمثاله من السلف والعلماء المتقدمين في مثل هذه الأحاديث، لنعرف بذلك بطلان تعطيل الخلف المتأخرين.